بعكس ما قد يبدو عليه عنوان هذا المقال من كون الإيجابية والتفاؤل أمرًا سيئًا، فالغاية هنا هي التعرّف على ما يُسمّى بـالتفاؤل المزيف أو “الإيجابية السامة Toxic Positivity” والتفريق بينها وبين الشعور الحقيقي بالسعادة والرضا.
المحتويات
ما هو التفاؤل المزيف؟
التفاؤل المزيف أو ما يُعرف غالبًا باسم الإيجابية السامة “Toxic Positivity” هو التعميم المفرط والمبالغ فيه لشعور السعادة في جميع المواقف والحالات. الأمر الذي يؤدي إلى إنكار المشاعر الإنسانية الحقيقية والتقليل منها وفي بعض الأحيان القضاء عليها تمامًا.
وكما هو الحال مع كلّ شيء يزيد عن حدّه فينقلبُ إلى ضدّه، كذلك الإيجابية والتفاؤل، إن تمّت المبالغة فيهما تحوّلا إلى أمر سلبي سامّ، وفاقت أضراره منافعه.
عند رفض وجود مشاعر معيّنة وعدم السماح لها بأن تكون، فذلك يؤدي بنا إلى الوقوع في حالة من الإنكار وكبت المشاعر.
لنكن واقعيين، نحنُ البشر لسنا كاملين، إذ تتملّكنا مشاعر الغيرة والغضب والكراهية أو الطمع وغيرها من الأحاسيس السلبية. وتمرّ علينا أيّام نحسّ خلالها بأن الحياة مرّة لا حلو فيها. التظاهر بأنّ “كل شيء على ما يرام” وأنّنا “إيجابيون ومتفائلون” برغم كلّ شيء…التظاهر بهذه المشاعر يعني أننا نُنكر حقيقة مشاعرنا، بل وتجربتنا الأصيلة كبشرٍ على هذه الأرض.
علامات التفاؤل المزيف
إذن، هل سبق لك أن وقعت في فخّ التفاؤل المزيف؟
قد تساعدك العلامات التالية في تحديد ما إذا كنت قد فعلت أم لا:
- إخفاء أو تزييف مشاعرك الحقيقية.
- محاولة تجاوز أيّ مشاعر سلبية تنتابك بتجاهلها، كبتها أو إنكارها.
- الشعور المستمر بالذنب وتأنيب الضمير لأنك تحسّ بمشاعر معيّنة.
- التقليل من تجارب الآخرين (السيئة)، ومواساتهم بعبارات مثل: “تفاءل”، “كن إيجابيا”…الخ.
- محاولة التخفيف عن الغير من خلال تغيير منظورهم حول ما يواجهونه واستخدام عبارات مثل: “كان يمكن للأمور أن تكون أسوأ”.
- الغضب أو إشعار الآخرين بالخجل من أنفسهم لأنهم يحسّون بالإحباط أو الحزن أو أيّة مشاعر غير الإيجابية والتفاؤل.
- التخلّص من كلّ المشاعر التي تضايقك بعبارة: “هكذا هو عليه الحال” أو “لا شيء بيدي”..الخ.
اقرأ أيضًا: كيف تحب نفسك كشخص انطوائي؟
ماذا عن أضرار التفاؤل المزيف؟
لا أعلم عنك…لكني كنتُ هناك قبلاً… كنت أؤمن بأن التفاؤل الدائم، الشعور الدائم بالفرح والسعادة هو الأمر الصحيح، وبأنه عليّ أن أكون إيجابية وأنظر إلى “الجانب المشرق” على الدوام حتّى عند غياب الإشراق عن حياتي، فماذا كانت النتيجة؟!
أقلّ ما يمكنني قوله هو أنّها لم تكن إيجابية ولا سعيدة، وأحدثت ضررًا فاق النفع بكثير.
إن لم تكن مقتنعًا بعد بأضرار الإيجابية السامّة والتفاؤل المزيف، إليك بعضًا ممّا قد يحدثانه في نفسك من دمار:
1- مشاعر العار
الحثّ الدائم على التفاؤل والإيجابية وقت الألم والحزن يشجّع الفرد على الصمت وكبت مشاعره الحقيقة.
غالبيتنا لا نرغب في أن نظهر للآخرين على أنّنا سيئون أو “مخرّبون للجو العام”، لذا عندما نكون أمام أحد خيارين:
- أن نكون صادقين وشجعانًا تجاه مشاعرنا، أو
- أن نتظاهر بأنّ كلّ شيء على مايرام.
عندما نكون أمام أحد هذين الخيارين، فالأرجحُ أنّنا سنختار الاحتمال الثاني. إلاّ أنّ لهذا الاختيار تبعات أخرى تتمثّل في الشعور المتزايد بالعار والخجل من أنفسنا.
وتؤكّد الباحثة والكاتبة برني براون على هذا الأمر من خلال كتابتها ولقاءاتها، إذ تقول أنّ المصدر الأساسي لمشاعر العار هو الصمت والكبت وإطلاق الأحكام.
بمعنى آخر، عندما يكون هناك إخفاء للمشاعر أو كتم لها أو إنكار لحقيقتها، فالسببُ في الغالب هو الشعور بالعار.
تعدّ مشاعر العار من أسوأ ما قد يحسّ به الإنسان، بل إن البعض لا يدرك أنّه يمتلك هذه المشاعر حتّى!
إليك طريقة بسيطة تساعدك على معرفة ما إذا كنت تملك في أعماقك مشاعر خفية بالعار:
اسأل نفسك: “لو عرفوا أنّي ـــــــــــــــــــ ما الذي سيقولونه يا ترى؟”
أو:
“أحد الأمور التي لا أريد للآخرين أن يعرفوها عنّي هي ـــــــــــ.”
إن استطعت ملأ الفراغ بأيّ شيء، سواءً كان ذلك موقفًا حصل معك أو تجربة من الماضي أو سِمة معيّنة، فمن المرجّح أنّك تخفي بداخلك مشاعر من العار.
محاولة إخفاء هذه المشاعر من خلال التظاهر بأنّ كلّ شيء على ما يرام، أو بالتفاؤل المزيف لن تخدمك، بدلاً من ذلك ستؤدي إلى كبت هذه المشاعر أكثر وزيادة تأثيرها السلبي عليك إلى أن تنفجر أخيرًا وتظهر في صورة عقد نفسية أو ما أحب تسميته بالـ “كلاكيع”، والتي ستؤثر سلبًا على حياتك بشكل عام.
2- الكتم والكبت
تشير الكثير من الدراسات المتخصصة في علم النفس أنّ إخفاء المشاعر وكتمها أو إنكارها يؤدي إلى زيادة التوتر، وبالتالي إجهاد الجسم. فضلاً عما تسبّبه من زيادة في نسبة الأفكار المزعجة أو المشاعر المؤلمة.
في إحدى الدراسات على سبيل المثال، تمّ تقسيم المشاركين إلى مجموعتين، وعُرضت مقاطع مزعجة لعمليات جراحية على كلا المجموعتين، ثمّ تمّ تسجيل مستويات التوتر لكلّ منهما من خلال قياس نبضات القلب أو حركة العين أو إفراز العرق…الخ.
من الجدير بالذكر أنه قد طُلب من أفراد المجموعة الأولى التعبير عن مشاعرهم بصراحة، في حين طُلب من أفراد المجموعة الأخرى التظاهر بأنّهم على ما يرام وأنهم لم ينزعجوا من المشاهد المعروضة أمامهم.
كانت النتيجة صادمة، فالمشاركون الذين كبتوا مشاعرهم عانوا من مستويات توتر أعلى!
صحيح أنّهم بدوا في الظاهر على ما يرام، لكن ما كان يحدث في داخل جسمهم مغاير تمامًا.
فما الذي يمكننا أن نستخلصه من هذه الدراسات؟
خلاصة هذه التجارب هي أنّ إظهار المشاعر بأنواعها المختلفة، حتى تلك التي لا تعدّ إيجابية، والتعبير عنها بالكلمات أو حتى تعابير الوجه (نعم قد يعني ذلك البكاء أو الصراخ أيضًا)، يُسهم في تخفيف معدّلات التوتر.
عندما نسعى لإخفاء جانب من شخصيتنا، فإننا بذلك نصنع واجهة مزيّفة نعرضها للعالم. تلك الواجهة التي تبدو سعيدة مرحة على الدوام، والتي تكرّر على الدوام: “كلّ شيء يحدث لسبب وبسبب” أو “ما باليد حيلة” …الخ من مثل هذه العبارات.
إخفاء مشاعرنا الحقيقية على هذا النحو يعني أنّنا ننكر حقيقتنا، وبل ونُنكر الحقيقة ككلّ…
الحقيقة هي أنّ الحياة قد تكون مؤلمة في بعض الأحيان، وقد تكون قاسية وقد تكون صعبة…ويمكن أن تخلو أيامنا من الألوان ويمكن أن تنتابنا الرغبة في الرحيل عن العالم، ويمكن أن تنطفئ روحنا أحيانًا…
وجميعها مشاعر حقيقية ومؤكدة سيؤدي إنكارها وتجاهلها إلى دفنها عميقًا في العقل الباطن لتتجلّى فيما بعد على شكل أمراض نفسية كالاكتئاب أو حتى اعتلالات جسدية.
3- الانعزال وتوتر العلاقات
نعم، التفاؤل المزيف لن يُكسبك الأصدقاء، ولن يجعلك الشخص المحبوب الذي يلتفّ الجميع حوله. على العكس من ذلك سيجعلك تخسر الكثير.
عندما ننكر حقيقة مشاعرنا، سنبدأ بعيش حياة مزيفة مع أنفسنا ومع العالم أيضًا…. سنفقد تواصلنا مع ذواتنا، وسيصبح من الصعب على الآخرين أن يتواصلوا معنا.
بالنسبة للعالم الخارجي، سنبدو كأشخاص أقوياء لا يمكن لأحد أن يكسرهم، بينما نحنُ في الواقع لسنا سوى مخلوقات ضعيفة منكسرة بحاجة إلى حضن دافئ يحتويها.
صحيح أنّ هذه الجمل قد تكون قاسية على البعض، وقد كانت قاسية عليّ أنا أيضًا، لكنها مع ذلك الحقيقة.
فكّر في الأمر، لو كنت محبطًا أو تواجه أوقاتًا عصيبة، ولديك صديق يؤمن بأنّ الحياة إيجابية على الدوام… هل ستكون مرتاحًا حقًا للتحدّث معه عمّا يضايقك؟ أو لمشاركته مشاعرك العميقة؟
على الرغم من أن المتفائلين المزيفين يملكون نيّة حسنة في غالب الأحيان، لكن الرسالة التي يبثّونها للعالم هي في الغالب: “لا يُسمح إلى بالمشاعر الإيجابية في حضوري”.
أوليس هذا متسلطًا بعض الشيء؟!
بالتالي، ستشعر أنّك مجبر على الالتزام بهذه القاعدة، وإظهار المشاعر الإيجابية فقط، وبالتالي سيكون عليك أن تكون شخصًا آخر بحضور هذا الصديق…
في النهاية لن يمكنك أن تكون أنت، بشخصيتك الحقيقية، بمشاعرك الحقيقية… وسينتهي بك الأمر إلى فقدان نفسك.
علاقتنا مع أنفسنا غالبًا ما تنعكس على علاقتنا مع الآخرين. فإن لم تكن صادقًا مع نفسك، كيف يمكنك إذن أن تكون صادقًا مع الغير؟ بل وكيف ستتيح لهم المجال ليكونوا صادقين هم الآخرين في حضورك؟!
اقرأ أيضًا: لماذا نعاني من الانفصال عن العالم الخارجي؟
عندما تخلق عالمًا مزيّفًا، ستجذب لنفسك المزيد من العلاقات الزائفة، وسينتهي بك الأمر مع أصدقاء سطحيين وعلاقات خالية من الحميمية والتواصل العميق.
أمثلة على التفاؤل المزيف والإيجابية السامة
قبل أن نتحدّث قليلاً عمّا يمكننا فعله للتغلّب على الإيجابية السامة أو التفاؤل المزيّف، لنستعرض أولا بعض الجمل والعبارات التي ترتبط بهذا السلوك، والتي قد نقولها ونستعملها أحيانًا دون وعي منّا.
عبارات مرتبطة بالإيجابية المزيفة:
- لا تفكّر في الأمر كثيرًا، كن إيجابيًا!
- لا تقلق، كن سعيدًا!
- الفشل ليس خيارًا!
- كلّ شيء سيكون على ما يرام في النهاية.
- مشاعر إيجابية فقط!
- إن كان بوسعي فعل ذلك، فأنت أيضًا يمكنك القيام بهذا الأمر.
- تخلّص من السلبية.
- انظر إلى الجانب المشرق.
- انظر إلى النصف الممتلئ من الكأس.
- كلّ شيء يحدث لسبب ما.
- كان يمكن للأمور أن تكون أسوأ.
يمكننا أن نجزم أنّنا جميعنا قد استخدمنا واحدة من هذه العبارات سابقًا، أو سمعناها من الآخرين لمرّة واحدة على الأقل.
ممّا لا شكّ فيه أن سماعها لم يجعلنا نشعر بالتحسّن حقًا، ولم يُسهم في تخفيف ذلك الإحساس المؤلم بالحزن أو الضياع، بل ربّما كان تأثيرها عكسيًا وأشعرنا إمّا بمزيد من الضيق أو بتأنيب الضمير لأننا غير قادرين على التفاؤل أو أدّى إلى توتّر العلاقة بيننا وبين ذاك الذي قال تلك العبارات.
لكن هل ستكون ردّة فعلنا مماثلة لو أنّنا سمعنا إحدى الجمل التالية بدلا من العبارات السابقة:
- صف لي شعورك، كلّي آذان صاغية.
- أرى أنّك متضايق جدًا، هل يمكنني تقديم العون لك؟
- الفشل جزءٌ من عملية النمو، وهو أمر طبيعي في هذه الحياة.
- ما تمرّ به صعب حقًا، وأنا أفكر في مشكلتك وأفكّر فيك.
- سأكون إلى جانبك في الحلوة والمرّة.
- لكلّ منّا قدراته وإمكاناته ومحدّداته، وهذا الاختلاف طبيعي تمامًا.
- المعاناة جزءٌ من الحياة، أنت لست وحيدًا.
- أفهم ما تشعر به، وأنا هنا لدعمك.
- أحيانًا تسير الأمور بما لا تشتهي سفننا، ما الذي يمكنني فعله لمساعدتك؟
- إنه موقف صعبٌ حقًا، يُحزنني أنّك تمرّ بهذه الصعوبات.
على الأرجح كنّا لنحسّ بمشاعر أفضل إن سمعنا أيّا من العبارات في المجموعة الثانية، والسبب في ذلك أنّها لا تدعونا إلى تجاهل مشاعرنا أو إنكارها.
بدلاً من ذلك، فهي تمنحنا الإحساس بأنّ ما نشعر به حقيقي ومقبول ولا عيب فيه. بل هو في الواقع شعور طبيعي.
كيف تتعامل مع الإيجابية المزيفة؟
حتى نتمتّع بصحة نفسية جيدة لا بدّ لنا بداية أن نكون واعين بأنفسنا وبالطريقة التي نقدّم بها أنفسنا للعالم. فإن وجدت نفسك ناقلاً للإيجابية المزيفة، حان الوقت لإيقاف هذا التصرف، لأنك وقبل كلّ شيء تؤذي نفسك أوّلاً، وتؤذي من حولك بإجبارهم على انتهاج أسلوب تفكير ثابت لا يتغيّر، ألا وهو التفاؤل الكاذب.
الخطوة التالية تتمثّل في تقبلّ مشاعرك ومشاعر الآخرين كما هي ومهما كانت.
لا ضير في الشعور بالحزن أو الغضب أو القلق أحيانًا، فالحياة مزيج من اللحظات الجميلة والسيئة، والتفاؤل الحقيقي هو أن تتقبل المواقف السيئة، وتعترف بأنها سيئة، بل وتعترف بمشاعرك السلبية.
تقبّل شعورك السيء، وعبّر عنه بالطريقة التي تريحك، هنالك طرق عديدة للتعبير عن مشاعرك، كالبكاء أو كتابة المذكرات أو الحديث مع صديق مقرّب عن مشاعرك الحقيقية.
يمكنك أيضًا ممارسة هواية ما للتعبير عن مشاعرك، كالرسم مثلاً أو الغناء أو العزف… الخ
أيّا كانت الطريقة التي تريحك، ننصحك باتباعها للتعبير عما يجول في داخلك. أخرِج المشاعر السلبية من داخلك وتقبّل نفسك كما أنت…عندها فقط ستتمكّن من تذوّق حلاوة التفاؤل الحقيقي والإيجابية الصادقة التي تساعدك في المُضي قدمًا إلى الأمام.