قد تعلّمك قصة قصيرة في بعض الأحيان أكثر بكثير ممّا تقرؤه في الكتب ومجلّدات الفلسفة وعلوم النفس ومحاضرات المختصين. هذا لا يعني بالطبع أنّ الكتب والخبراء والمتخصصين غير مهمّين، لكن قد لا يمتلك البعض الوقت أحيانًا لقراة كتاب كامل، أو حضور درس أو محاضرة… أو ربّما ببساطة لا يجدون أنفسهم مستعدّين لتلقي معلومة ما أو نصيحة في إطار علمي بحت، فينجذبون أكثر إلى القصص والحكايا.
جمعتُ لك عزيزي القارئ في مدوّنة أفكار دافئة عدّة حكايات أحببتُ أن أطلق عليها سلسلة “قصص قصيرة ملهمة”، أشاركها معك، وأعقّب عليها في النهاية لنستفيد معًا ونأخذ العبرة المرجوة منها.
هي ليست قصصًا من تأليفي، بل حكايات من مختلف أنحاء العالم، مستوحاة من ثقافات متنوعة، لكن العبرة فيها تنطبق بلا شكّ على أيّ شخص على هذه البسيطة، وستسهم حتمًا في تغيير نظرتك إلى العالم من حولك، ولو بدرجة صغيرة!
قصة قصيرة ملهمة – أفرغ كوبك أوّلاً!
يُحكى أنّه كان هناك في إحدى الجامعات، بروفيسور معروف بعلمه الواسع وخبرته الطويلة في مجال علوم الفلسفة، وله قد نُشرت العديد من البحوث والمقالات في أشهر المجلاّت العلمية. وكان هذا البروفيسور شديد الاهتمام بتعاليم الـ “زن” أو الـ Zen الشائعة في الصين واليابان ودول آسيا، ويسعى إلى معرفة المزيد عنها، فقرّر في أحد الأيام السفر إلى اليابان لمقابلة معلّم زن ياباني والتعلّم منه أكثر عن هذا الأمر.
وصل البروفيسور بعد رحلة طويلة إلى مقرّ معلّم الزن، وانتظر لبعض الوقت قبل أن يقوده أحد التلاميذ إلى معلّمه، فوجده البروفيسور شخصًا متواضعًا لطيف المعشر، تشعّ منه الطاقة الإيجابية وترتسم على محيّاه ابتسامة مرحّبة ودودة.
وبعد الترحيب والتعارف، سأل معلّم الزن الياباني البروفيسور عن سبب زيارته فأجابه هذا الأخير:
“جئت أتعلم منك عن تعاليم الزن وممارساته”
فأردف المعلّم قائلاً:
“أنت مشهور بعلمك ومعرفتك في كلّ مكان حول العالم، فأخبرني أوّلاً وشارك معي بعضًا ممّا تعرف..”
فبدأ البروفيسور هنا بإخبار المعلّم عن أبحاثه الواحد تلو الآخر في مختلف المجالات، ثمّ بدأ بمشاركة ما يعرفه عن الـ Zen وتعالميه وقواعده، وأنصت إليه المعلم في هدوء لساعة أو ما يزيد قبل أن يقترح عليه أخذ استراحة قصيرة واحتساء بعض الشاي، فوافق البروفيسور، وشكر المعلّم على لطفه وحسن ضيافته.
بعد لحظات، أقبل أحد التلاميذ إلى غرفة المعلّم حاملاً صينية الشاي الياباني التقليدي، فوضعها أمام الرجلين وغادر المكان.
بدأ المعلم بسكب الشاي في الكوب فيما استأنف البروفيسور حديثه عن خبراته ومعارفه حول الـ Zen للمعلّم الذي استمرّ في سكب الشاي ببطء، حتى امتلأ الكوب، لكنه لم يتوقّف بل واصل السكب، فنضح الشاي وانساب على المائدة.
لاحظ البروفيسور ذلك لكنّه لم يقل شيئًا، بل راح يحدّق في المعلم بصمت، وما فتئ الشاي يملأ الصينية ثم يفيض وينسكب على ثوب المعلّم، ولم يتمكن البروفيسور من تمالك أعصابه، فأردف قائلاً بعجب:
– توقّف! ألا ترى أن الكوب قد امتلأ وهو يفيض الآن… لن يستوعب المزيد!
بيْد أن المعلم لم يتوقف، واستمر في فعل ما يفعله، فتملّك البروفيسور الغضب، وشعر بالإهانة، ونهض في عجل متجهًا إلى الباب ليغادر المكان.
عند هذه اللحظة توقّف المعلم عن سكب الشاي، وطلب من البروفيسور أن يرجع، لكن هذا الأخير تجاهله وواصل سيره نحو الباب، فنهض المعلّم وأوقفه.
ابتسم المعلّم الحكيم، وأوضح للبروفيسور السبب وراء ما فعله قائلاً:
– لقد أتيت إلى هنا لتطرح الأسئلة، لكنك جئت ممتلئًا! لديك أفكارك الخاصّة واعتقاداتك حول الموضوع ولا تملك أيّ مساحة فارغة لتلقي المزيد. إذا لم تخصّص مساحة كافية فلن تستطيع استقبال أيّ معلومة جديدة… إنّك تمامًا مثل كوب الشاي الذي فاض بما فيه! … كيف تريدني أن أعلّمك قواعد وتعاليم الـ Zen وكوبك ملآن كهذا؟! أفرِغ كوبك أولاً ثم عد إليّ لأستطيع إفادتك.
العبرة من هذه القصة
تقدّم لنا هذه القصّة القصيرة المستوحاة من ثقافة الـ Zen الصينية بعض الدورس والرسائل المهمّة القوية…
عليك أن تكون متواضعًا، ومنفتحًا على الأفكار الجديدة، بل ومتقبّلاً لفكرة تغيير وجهة نظرك… ببساطة أن تكون قابلاً للتعلم واكتساب معلومات جديدة كلّ يوم.
صحيح أنّك قد تكون خبيرًا في مجال ما، وربّما تملك سنوات وسنوات من الخبرة والمعرفة، لعلّك قرأت آلاف الكتب، لكن…هناك ملايين أخرى لم تقرأها!
عليك وعلينا جميعًا أن نتقبل فكرة أنّ هنالك المزيد ممّا يمكننا تعلّمه… لا أحد ختم العلم، أو عرف كلّ ما في هذا الكون من خفايا، وهو أمر طبيعي… التعلّم رحلة وليس غاية.
من المهمّ أيضًا أن تكون مستعدًّا للتخلي عن بعض القناعات، المعلومات أو الأفكار القديمة التي لا تنفع من أجل أن تتمكّن من تعلّم شيء جديد، بمعنى آخر، من المهم أن تفرغ كوبك من حين لآخر لتتمكّن من ملئه مرة أخرى.
ليس هذا وحسب، قصيرة قصيرة كهذه تعلّمنا أيضًا درسًا في كيفية حلّ النزاعات، والتواصل بفعالية مع الغير. علينا بداية أن نسمح للطرف الآخر بأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه وأفكاره قبل أن نقدّم لك معلومات جديدة. فإن بدأت على الفور بإلقاء المحاضرات وإعطاء الدروس دون إنصات أو استماع، لن تتمكّن على الأغلب من إيصال معلومتك لهذا الشخص.
ابدأ بإفراغ كوبه أولا، وافهم وجهة نظره ثمّ قدّم له ما تريد أن تعلّمه إياه. تعلّم أن تستمع قبل أن تتحدّث، وأن تفهم الآخر قبل أن تتواصل معه.
أخيرًا تعلّمنا هذا القصّة وتعرّفنا على أثر الإيجو في تعاملاتنا الاجتماعية اليومية. غالبًا ما نشعر بأننا نعرف كلّ شيء، وقليلون هم الذين يستمعون ليتعلّموا، فالأغلب يستمع ليردّ فقط…
تركّز تعاليم الـ Zen على أهمية التخلّي عن الإيجو ووضعه جانبًا عند التواصل مع الغير في الحياة. هناك على الدوام طريقة أخرى للنظر إلى الأمور، ووجهة نظر مختلفة لأخذها بعين الاعتبار، وهذه هي الطريقة الوحيدة لبناء علاقات حقيقية مع الآخرين…
إن أعجبتك هذه القصّة، شاركها مع غيرك على صفحتك الخاصّة ليستفيد منها الآخرون وتابعنا على صفحتنا الخاصّة على انستغرام ليصلك المزيد من المحتوى الملهم والإيجابي، والكثير الكثير من الأفكار الدافئة لتعيش حياة أكثر سعادة وإيجابية.