يحلو لي في مساءات الصيف أن أجلس في أحد المقاهي الهادئة في حيّ مميز من أحياء مدينتي، ولعلّ السبب الذي يدفعني دومًا لاختيار ذلك الحيّ ومقاهيه دون غيره هو أبنيته القديمة، لا أعني بالقديمة هنا، أبنية متهالكة رثّة، وإنّما أبنية تقليدية تمّ تعميرها قبل عقدين أو أكثر من الزمان، فحافظت على عراقتها، ولازالت روح الماضي تسكنها.
المحتويات
- ما هو الحنين أو نوستالجيا؟
- الحقيقة الخفية والصادمة عن الحنين
- الحنين من وجهة نظر علمية
- الروائح من أهمّ محفزات الحنين علميًا!
- هل الحنين أمر سلبي أم إيجابي؟
- 1- الحنين يمنحك مزيدًا من التعاطف
- 2- تخفيف مستويات التوتر
- 3- التعامل مع الأحداث السيئة بصورة أفضل
- 4- الشعور بالتفاؤل
- 5- الشعور بالدفء
- هل سبق أن شعرت بالحنين لماضي لم تعشه؟
- قصص قصيرة ذات عبرة
- كيف تحمي نفسك من الاحتراق الوظيفي عند العمل عن بعد؟
- تحليل الشخصية | تعرّف على نماذج كارل يونج الـ 12 لاكتشاف الذات
أجلس هناك برفقة كتاب، أو حاسوبي الشخصي أنهي عليه بعض أعمالي، ولكي أتمكّن من التركيز أكثر، أضع سمّاعاتي وأنصت إلى المقطوعات الموسيقية المفضّلة لدي…
وفي كلّ مرّة أفعل ذلك، أجد ذاكرتي تنساق لا إراديًا إلى أيّام الماضي، تحديدًا مساءات الصيف التي كنتُ أقضيها خلال طفولتي في منزل جدّي…كثيرًا ما كنتُ أجلس خلال ساعات الغسق في حديقة المنزل، أتأمل قرص الشمس وهو يغوص خلف الجبال في البعيد، وأستنشق خليطًا استثنائيًا من عبق الورد الجوري الممزوج بزهر الليمون والياسمين فيما تتناهى إليّ أصوات أحاديث خافتة متداخلة يتبادل أطرافها أفراد عائلتي وهم يجلسون إلى مائدة القهوة المسائية.
أهي الموسيقى يا ترى؟ أم أنّه المكان أو ربّما فصل الصيف؟
لا أعلم حقًا، بيْد أني أدرك امرًا واحدًا، وهو أنّ اجتماع تلك الظروف معًا في وقتٍ واحدًا له تأثير سحري عليّ، وقدرة عجيبة على إيقاظ مشاعر الحنين إلى الماضي في مهجتي…
فما هو الحنين حقًا؟ كيف يحدث؟…وهل يمكن أن تشعر بالحنين لمواقف لم يسبق لك عيشها؟
لقد قرأت وبحثتُ كثيرًا سعيًا للوصول إلى إجابة وافية… وسأشارك معك عزيزي القارئ ما خلصتُ إليه أثناء رحلتي لسبر أغوار عالم الحنين للماضي أو النوستالجيا.
اقرأ أيضًا: كيف أتخلّص من الشعور بالوحدة؟
ما هو الحنين أو نوستالجيا؟
أبسط تعريف للحنين هو عودة الفرد بأفكاره إلى ذكريات الماضي الغالية عليه، حيث تختلف هذه الذكريات من شخص لآخر، إلاّ أنّ هناك بعض السمات المشتركة التي تتسم بها كلّ ذكريات الحنين، فمثلاً:
- جميع هذه الذكريات تنطوي على جانب اجتماعي، فهي غالبًا ما ترتبط بأفراد العائلة، الأصدقاء المقرّبين أو الشركاء العاطفيين.
- تحمل جميعها معزّة ومعنى شخصيًا، فهي قد تبدو عادية للغير، لكنها وبسبب طبيعتها الحميمية الخاصّة، تحمل قيمة عظيمة بالنسبة لصاحبها.
- غالبًا ما تكون هذه الذكريات قد حدثت في الماضي البعيد، بمعنى آخر، لا يمكنك أن تشعر بالحنين لأحداث الأمس أو قبل أسابيع قليلة، لكنك حتمًا ستحنّ لذكريات الطفولة أو الأيام التي عشتها قبل عشر سنوات أو أكثر.
الحقيقة الخفية والصادمة عن الحنين
لكن الغريب في الأمر أن النوستالجيا في الواقع لا تمثّل الماضي الحقيقي كما هو!
نعم… إنّها لا تمثّل الماضي كما حدث، وإنمّا الماضي كما نتخيّله نحن. النوستالجيا بكلّ بساطة ما هي إلاّ خيالات، وذلك الحنين هو في الحقيقة حنينٌ لماضٍ لم نعشه أو نجرّبه، وإنّما لماضٍ “نعتقد” أنّنا عشناه!
سيبدو لك الأمر أكثر واقعية عند وضعه في سياق شخصي. فمثلاً، نميلُ نحن وآباؤنا إلى الاعتقاد دومًا أنّ أيام طفولتنا (أو الماضي بشكل عام) كان أفضل من وقتنا الحالّي.
لسبب ما، ننسى جميع الصعوبات والتحدّيات والمشكلات التي كنّا نعيشها، ونستبدلها بأفكار وتطمينات بأنّ كلّ شيء كان على ما يرام، كما لو أنّ الحياة كانت وردية خالية من أيّة هموم (وذلك ليس صحيحًا بالطبع).
وعلى الرغم من هذه الحقيقة حول الحنين، لكنّه يبقى مع ذلك إحساسًا دافئًا نحبّه كلّنا ويبعث فينا مشاعر وأحاسيس فريدة لا يمكن مقارنتها بأيّ شيء آخر.
فما الذي يحدث حقًا عند الشعور بالحنين؟ وما هو رأي العلم في هذا الشأن؟
اقرأ المزيد: الطفل الداخلي: طريقك للتعافي من آلام الماضي
الحنين من وجهة نظر علمية
في دراسة أجريت سنة 2016 ونُشرت في مجلة Oxford Academic العلمية التابعة لجامعة أكسفورد، تمّ الكشف عمّا يحدث حقًا عند الشعور بالحنين.
لقد تمّ الاستعانة بتقنية الرنين المغناطيسي لمراقبة نشاط دماغ المشاركين في الدراسة عند تعرّضهم لمحفّزات تشعرهم بالحنين، كصور من الطفولة مثلاً، أو من منتجات اعتادوا على شرائها في الماضي.
وعندما أعرب المشاركون عن شعورهم بالحنين حقًا، لاحظ العلماء أنّ هناك شبكتين عصبيتين تظهران نشاطًا قوّيًا في أدمغة هؤلاء المشاركين، ألا وهي مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة، وتلك المتعلّقة بنظام المكافأة في الدماغ “Reward System”.
وكلّما عمل هذان الجزءان من الدماغ معًا أكثر، ازداد شعور الشخص بالحنين حسب قول العلماء.
من الجدير بالذكر أنّ هناك نوعًا محدّدًا للغاية من الذاكرة يتمّ تفعيله عند الشعور بالحنين أو النوستالجيا، وهو الذاكرة الشخصية، أيّ الذاكرة الخاصّة بك أنت والتي عشتها أنت، وليس تلك المتعلّقة بأشخاص آخرين.
الروائح من أهمّ محفزات الحنين علميًا!
أظهرت الدراسات أيضًا أنّ الروائح هي واحدة من أهمّ محفّزات الحنين. عندما تستنشق رائحة ما (أو مزيجًا من الروائح معًا)، يتمّ معالجة هذه الروائح وتخزينها في منطقة في الدماغ تسمّى “البصلة الشمية” أو Olfactory Bulb.
هذه المنطقة متصلة مباشرة بالأميجدالا (اللوزة الدماغية) المسؤولة بشكل أساسي عن المشاعر والأحاسيس. ومتصلة أيضًا بمنطقة تسمّى الحصين، مسؤولة عن الذاكرة.
وتعدّ الروائح من فترة الطفولة إحدى أقوى محفّزات الحنين، نظرًا لأن التعرض الأول للروائح غالبًا ما يكون خلال مرحلة الطفولة. حيث ينشئ الدماغ في هذه الحالة روابط قويّة للغاية بين هذه الروائح والذاكرة، معتقدًا أنّ تذكّر هذه الروائح قد يكون مهمًّا للبقاء.
أعتقد أني قد بدأت أعرف السبب وراء شعوري بالحنين عند جلوسي في ذلك المقهى في أيام الصيف… روائح القهوة الممزوجة بعبق الياسمين والجوري، مشابهة للغاية لتلك المساءات في منزل جدّي!
اقرأ المزيد: لماذا أشعر بأنني لا أستحق الحب؟
هل الحنين أمر سلبي أم إيجابي؟
في بدايات الاهتمام بدراسة النوستالجيا، كان يُنظر إليها على أنّها ببساطة اشتياق للبيت والوطن.
في الواقع، من هنا جاء اسمها “Nostalgia”!
لقد تمّ استخدام هذه الكلمة للمرّة الأولى عام 1688 من قبل طالب في الطبّ يُدعى يوهانس هوفر.حيث وصف خوف الجنود الذي يقاتلون بعيدًا عن ديارهم مستخدمًا الكلمتين اليونانيتين “Nostos” والتي تعني العودة إلى الديار. وكلمة “Algos” التي تعني الألم، ليصبح معنى “نوستالجيا” الاشتياق إلى الوطن..
لكنّ الدراسات فيما بعد أثبتت أنها اكبر وأوسع من ذلك بكثير، لأنها في الواقع تعبّر عن الاشتياق للماضي بشكل عامّ.
وهنا قد يطرح البعض السؤال: هل الحنين أمر إيجابي أم سلبي؟ هل من الجيد الاستمرار في الشعور بالاشتياق الدائم للماضي؟
من المؤكّد بالطبع أن العيش الدائم في الماضي ليس أمرًا جيّدًا أو محبّذًا، لكن العودة إليه من حين لآخر قد أثبتت فعاليتها في التغلّب على الكثير من المشاعر السلبية، والمواقف العصيبة.
إليك بعضًا من إيجابيات الشعور بالحنين واسترجاع بعض الذكريات الدافئة عن طفولتك:
1- الحنين يمنحك مزيدًا من التعاطف
غالبًا ما يتمّ ربط النوستالجيا بالشعور بالوحدة. ولكن أظهرت الدراسة السابقة الذكر، أنّه وعندما يتذكّر الأشخاص ماضيهم ويحنّون إلى علاقاتهم السابقة، فإنّهم يقوّن إحساسهم العام بالانتماء والتعاطف مع الغير.
2- تخفيف مستويات التوتر
في دراسة أجريت سنة 2012 ونُشرت في مجلة Memory، أشار فريق الباحثين إلى أنّ الحنين يساعد الأشخاص على تشكيل رابط ما بين حاضرهم وماضيهم. وهو ما ينتج عنه إحساس أكبر بمعنى الحياة ووجود الغاية، أمران لهما عظيم الأثر في رفع المعنويات وتقليل الشعور بالتوتر.
3- التعامل مع الأحداث السيئة بصورة أفضل
أكدّت ذات الدراسة السابقة أنّ النوستالجيا لها في الواقع دور وجودي! حيث أنّ الأشخاص الذين يعودون إلى الماضي غالبًا ويشعرون بالحنين، هم أكثر قدرة على تقبّل الأحداث التراجيدية والتعامل معها، كموت شخص عزيز مثلاً.
4- الشعور بالتفاؤل
في شهر آب 2013، أشارت دراسة نُشرت من قبل مجلة “American Psychological Association” إلى أنّ النوستالجيا تعزّز الشعور بالتفاؤل. وذلك من خلال رفع أحاسيس تقدير الذات (نظرًا لأن الذكريات المرتبطة بالحنين إيجابية، ويتذكّر الشخص فيها نفسه بصورة حسنة)، ومشاعر الترابط والأمل بالمستقبل.
5- الشعور بالدفء
ونعني هنا الدفء الحقيقي الجسدي!
دعني أسألك سؤالاً… ألا تشعر بالحنين أكثر في فصول الشتاء؟ ألا يُشعرك شهر ديسمبر ويناير بحنين غريب للماضي، للشوكولا الساخنة، قراءة الكتب، الجلوس أمام المدفأة، أو التمشي تحت المطر والثلج؟!
السبب وراء ذلك، هو محاولة جسمك لإشعارك بالدفء!
وقد تمّ إثبات هذه الحقيقة في دراسة أجريت في الصين في جامعة Sun Yat-Sen. حيث أظهرت نتائج الدراسة إلى أنّ الأشخاص المتواجدين في أماكن باردة في فصل الشتاء، يظهرون شعورًا بالحنين أكثر من أولئك الذين يكونون في غرف دافئة. ممّا يعني أنّ الدماغ يضطرّ أحيانا إلى تحفيز الذاكرة والحنين من أجل تحقيق راحة جسدية، ألا وهي الشعور بالدفء.
هل سبق أن شعرت بالحنين لماضي لم تعشه؟
حسنًا، تحدّثنا عن الحنين إلى ماضيك وطفولتك، وهو أمر على ما يبدو منطقي وفسّره العلم وشرح أسبابه…لكن ماذا عن الحنين إلى حياة أو ماضي لم يسبق لك أن عشته؟!
هل سمعت والديك أو أحد جدّيك يتحدّث عن ماضيه وطفولته، وشعرت فجأة بالحنين كما لو أنّك كنت هناك؟
أو ربّما رأيت مقطع فيديو لمنظر طبيعي في بلاد بعيدة وأحسست بالحنين والاشتياق كما لو أنه قد سبق لك التواجد هناك….
بالنسبة لي، أنا أشعر أحيانًا بالحنين إلى مستقبل خيالي…
مستقبل كتبتُ تفاصيله في رواية أعمل على تأليفها…وفي كلّ مرّة أسمع مقطوعة موسيقية محدّدة (سأرفقها هنا عبر هذا الرابط)، أجد ذاكرتي ومشاعري تنساق لا إراديًا إلى أحداث الرواية الخيالية. وأحنّ إلى شخصياتها وقصصهم ومغامراتهم وحواراتهم!!
قد تظنّ عزيزي القارئ أنّ هذا جنون، أو ربّما مشاعر غريبة تراودني أنا فقط، لكنها ليست كذلك… فهي متواجدة وحقيقية ويُطلق عليها في الواقع اسم “Anemoia” أيّ الحنين إلى ماضٍ لم تعشه.
بعبارة أكثر دقّة، هو الحنين للماضي الجميل، الذي سمعنا آباءنا وأجدادنا يتغنّون به…
بحثتُ كثيرًا عن تفسير علمي، أو شرح لهذه الظاهرة وأسبابها، لكنّ محاولاتي تكلّلت بالفشل مع الأسف…فلم أجد سوى اسم الظاهرة ووصف لها… أمّا عن أسبابها ومسبّباتها فهي على ما يبدو لا تزال لغزًا يحيّر العلماء.
خلصتُ في النهاية، إلى وضع تفسيري الخاصّ لها. وهو تفسير مبني على اعتقادات ووجهات نظر شخصية، وليس بحال من الأحوال تفسيرًا علميًا حقيقيًا.
برأيي، الحنين إلى هذا الماضي اللامُعاش قد انتقل إلينا في الواقع من حنين آبائنا وأجدادنا… ربّما لأنّ الروابط التي تجمعنا بهم قويّة فنحنُ قد تأثرنا في النهاية بحنينهم ومشاعرهم الخاصة. ولربما قدرتهم السحرية على وصف الماضي بدقّة وفرح هو ما جعلنا نتأثر بقصصهم، ونحنّ إليها. لاسيّما أننا نعيش اليوم في زمن اختلفت فيه الكثير من الأشياء، وكثرت فيه الحروب والنزاعات. وارتفعت فيه نسب التوتر والقلق والخوف بشكل عام.
لعلّ هذا الحنين الغريب، ما هو إلاّ محاولة من عقولنا لتخفيف إحساسنا بالخوف من المجهول، والقلق والانزعاج من حاضرنا… لربما تلك هي وسيلة دماغنا لحمايتنا من ضغوطات الحاضر.
فما رأيك أنت؟ لماذا قد نشعرُ بالحنين لشيء لم يسبق لنا أن عشناه؟
يبدو هذا موضوعًا مناسبًا للغاية للحديث عنه في جمعتك المقبلة مع الأصدقاء والعائلة؟ شارك المقال معهم الآن، واستعيدوا معًا أيّام الماضي الجميل، فتلك طريقة رائعة لتخفيف التوتر بحسب العلماء!!