في عالم يعجّ باختبارات تحليل الشخصية، قد يصبح من السهل أحيانًا الضياع في عالم المسميّات. انطوائي، متعاطف، شخصية INFJ… وغيرها الكثير. ولا أنكر أنّي قد جرّبت الكثير من تلك الاختبارات، ووجدت بعضها دقيقًا للغاية كاختبار الـ MBTI لمايرز بريغز، الذي ساعدني حقًا لفهم نفسي بصورة أفضل، وسوف يساعدك أنتَ ايضًا.
في هذا المقال
لكن…ماذا لو أخبرتك أنّه في وُسعك الغوص أعمق من ذلك؟ ماذا لو ركّزت أكثر على فهم الأسباب وراء كون شخصيتك على هذا النحو الآن، بدلاً من مجرّد التعرّف على صفاتها وسماتها؟!
آلفريد أدلر هو بطل مقالنا اليوم! عالم نفس رائد آمن وعلى مدى سنوات، أنّ تحليل شخصيّة الإنسان لا ينطوي على معرفة نوعها وحسب، بل يتضمّن أيضًا سبر أغوار تطوّرها منذ الطفولة إلى اللحظة الراهنة، واستكشاف الأسباب التي ساهمت بالفعل في تشكيلها على هذا النحو.
سأخبرك اليوم عن قصّتي مع آدلر، وما علّمني إياه عن نفسي، طفولتي، مخاوفي وتلك الأحلام الصامتة في أعماقي التي طاردتها على مدى سنوات… وكيف بدأ كلّ شيء بـ 13 سؤالاً فقط!
من هو آدلر؟

آلفريد آدلر، هو طبيب ومعالج نفسي نمساوي. كان مؤسّس نظرية علم النفس الفردي، التي ركّز فيها على أهميّة الروابط الاجتماعية والشعور بالانتماء للمجتمع والسعي للنموّ الشخصي على الفرد. وبعكس سيجموند فرويد الذّي ركّز على الصراعات اللاواعية، آمن آدلر أنّ السلوك البشري غالبًا ما ينبع من الرغبة في التخلّص من مشاعر النقص، وتحقيق الشعور بالأهمية والانتماء. وأثّرت أفكاره مثل تلك المتعلّقة بعُقد النقص أو ترتيب الفرد بين إخوته، أثّرت كلّها في علم النفس الحديث والإرشاد النفسي.
بالنسبة لآدلر:
- تجاربنا الشخصية المبكّرة تشكّل إلى حدّ كبير نظرتنا إلى العالم من حولنا.
- جميعنا نحمل في داخلنا شعورًا بالنقص وإحساسًا ما بأنّنا “لسنا جيّدين بما فيه الكفاية”.
- وجميعنا نحاول التعويض عن شعورنا هذا بخلق هدف داخلي خاصّ بنا أو رؤية معيّنة لحياتنا.
- كما أنّ الكثير من تصرّفاتنا تأتي من الحاجة إلى الانتماء، المساهمة في المجتمع وترك بصمة وراءنا، ومن الرغبة في الشعور بأنّنا مهمّون بشكل أو بآخر.
حينما قرأت هذه المعلومات عن آدلر، شعرت أخيرًا أنّ هناك من تمكّن من وصف تلك المعارك الصامتة التي تدور في أعماق الكثيرين، واستطاع وصف ذلك الصراع بين ما نحنُ عليه وما نتمنّى أن نكونه.
13 سؤالاً جعلني أرى نفسي بشكل مختلف

فيما كنتُ أتنقّل بين صفحات الإنترنت، صادفتني فجأة قائمة بـ 13 سؤالاً تحليليًا مستندًا إلى بحوث آدلر النفسية. لم أعتقد في بادئ الأمر أن تؤثّر عليّ تلك الأسئلة كثيرًا، ورحتُ أجيب عنها كمن يُجيب عن أسئلة لاختبار ترفيهي عابر. في حينها لم أكن أعرف حقًا من هو آدلر. لكن، مع كلّ سؤال أقرأه وأجيب عنه، بدأتُ أشعر بشيء مختلف. بدأت الذكريات القديمة تطفو على السطح، وكشفت الأنماط المتكرّرة عن نفسها، وبدأت أخيرًا أرى تلك الخيوط الهادئة التي كانت تنسجُ قصّتي على مدى سنوات.
تضمّنت بعض هذه الأسئلة استفسارات حول الطفولة المبكرة والعائلة، على سبيل المثال:
- كيف كنتَ وأنت طفل صغير؟
- من كان الأقرب إليك من أفراد عائلتك؟
- ما الذي تخاف منه كثيرًا وتتجنّبه بأيّ ثمن؟
- ما الذي يمنحُ حياتك معنىً الآن؟
- ما هي النسخة من نفسك التي تسعى في داخلك لأن تكونها؟
الأسئلة بسيطة كما ترى…لكن إجاباتها، إن كانت صادقة، قد تغيّر الكثير حول نظرتك لنفسك. وحتّى أكون صريحة معك، فقد استعنتُ بالذكاء الاصطناعي لتحليل الإجابات وفهم ما تعنيه حقًا.
أفهم تخوّف الكثيرين من استخدام الذكاء الاصطناعي لمشاركة أمورٍ عميقة وخاصّة كهذه، لكن بالإمكان تغيير الإعدادات لأرشفة الحوار، وشطبه وعدم استخدامه في تطوير النماذج. فإن رغبتَ يمكنك فعلُ ما أفعله، أو تستطيع أيضًا قراءة تحليلات آدلر، وأبحاثه، أو حتّى الاستعانة بأخصائي نفسي إن دعت الحاجة لذلك.
ما الذي تعلّمته عن أنماط طفولتي؟

لقد كنتُ الطفلة الوحيدة، أحظى بحبّ والداي العميق ورعايتهما وحرصهما الشديد عليّ. وربّما كنتُ معتادة أيضًا على أن أكون محطّ الاهتمام في غالب الأوقات. كان أبي مرساتي، ومصدر أماني، يُشعرني على الدوام بأنّي محبوبة، ومهمّة.
لم أدرك من قبل كيف ساهمت سنوات طفولتي في تشكيل حياتي اليوم. أعني، بالطبع نعلم جميعًا أن من يعيش حياة صعبة في الطفولة قد يكبر حاملاً الكثير من الصدمات. لكن، ما لا نلقي له بالاً هو حقيقة أنّ طفولتك، سعيدة كانت أو تعيسة، ستشكّل ما أنت عليه اليوم.
بالنسبة لي، أن أكبر كطفلة وحيدة، كان يعني أن أتعلّم كيف أسلّي نفسي بمفردي، وأن أعتمد عاطفيًا على نفسي فقط. وشيئًا فشيئًا، أصبحت قيمتي مرتبطة إلى حدّ كبير بحقيقة أن يراني الآخرون، ويقدّرونني، أو يمدحونني. كبرتُ وأنا أتوق إلى التواصل العميق مع الآخرين، لكني كثيرًا ما كنتُ أجد نفسي أخوض دربي في الحياة بمفردي، محاولة أن أثبت لنفسي وللعالم أنّ بإمكاني القيام بكلّ شيء بنفسي.
فما الأثر الذي تركته طفولتك عليك اليوم يا ترى؟
واحدة من أكثر نظريّات آدلر المثيرة للاهتمام، هي تلك المتعلّقة بتأثير ترتيب الطفل في عائلته على شخصيّته مستقبلاً. حيثُ يوضّح العالم النفسي، أنّ الصفات المتعلّقة بترتيب الطفل في عائلته، لا تولد معه، وإنّما هي صفات مكتسبة نتيجة الظروف المحيطة، وديناميكية العلاقات في العائلة نفسها، والتي تؤثّر على الطفل في مراحل طفولته المبكرّة. وعلى الرغم من اختلاف العائلات، يبقى هنالك تشابه ملحوظ بين الآباء والأبناء بشكل عام، ممّا قد يؤدي إلى ظهور سمات معيّنة في الأطفال الوحيدين، أو الأبناء الأكبر مثلاً، وهو أمرٌ ينطبق على الذكور والإناث على حدّ السواء.
على سبيل المثال، قد يحمل الإبن الأكبر للعائلة، مزيجًا من سمات “الطفل الوحيد” لأنّه كان وحيدًا قبل مجيء الإخوة، بالإضافة إلى صفات أخرى مثل:
- الإنجاز والسمات القيادية.
- مشاعر التفوقّ على الأطفال الآخرين.
- الإحساس بأنّه غير مرغوب أو الشعور بالإهمال عند ولادة الأخ/ الأخت الأصغر.
- الميل للسيطرة والتحكّم، والعناد.
- القيام بتصرّفات معيّنة (جيّدة أو سلبية) لجذب اهتمام الآباء.
- الرغبة المستمرّة في إرضاء الغير (People pleasing).
- الثقة، والقدرة على تحمّل المسؤولية.
وبالمقابل، نجد أنّ الطفل الأوسط عادة ما يُظهر سمات مختلفة، مثل:
- الإحساس بالظلم.
- المزاجية.
- الشعور بأنه غير محبوب، أو منبوذ.
- الافتقار إلى مسؤوليات الأخ الأكبر ومزايا الأخ الأصغر.
- القدرة على التأقلم مع الظروف المحيطة.
- الشعور بأنّه مضغوط ومقيّد في بيئة العائلة.
وأمّا الطفل الأصغر، أو آخر العنقود كما يُقال عنه، فهو الآخر يُظهر سمات مميّزة تختلف عمّا سبق، قد تتمثّل في:
- البحث الدائم عن الاهتمام وجذب انتباه الآخرين.
- التصرّف كما لو أنّه الطفل الوحيد.
- الشعور الدائم بأنّه أقل من غيره، وأنّ كلّ إخوته الأكبر أكثر كفاءة ونجاحًا منه.
- عدم القدرة على تحمّل المسؤولية، والاعتماد على الغير في ذلك.
- لا يُؤخذ على محمل الجدّ.
وهكذا يكشف لنا آدلر من خلال نظريته هذه عن تأثير ترتيبنا في الأسرة وأنماط طفولتنا على شخصيّتنا الحالية، أمرٌ إن فهمناه، سيمكّننا بلا شكّ من التعاطف مع أنفسنا أكثر. وأن نفهم سبب تصرّفنا على نحو معيّن في مواقف محدّدة. في بعض الأحيان، المشكلة ليست في كوننا ضعفاء، أو سيّئين، أو أقلّ من الآخرين، وإنّما هي الطريقة التي نشأنا بها. التصالح مع هذه الحقيقة هو ما يُتيح لنا التقدّم إلى الأمام، والتطوّر والنموّ في مختلف مناحي حياتنا.
جرح الانتقاد وعلاقتي مع الفشل

جانب آخر من الجوانب التي كشفتها لي أسئلة آدلر عن نفسي، كان ردّة فعلي تجاه الفشل، والانتقاد…
في الواقع…أكره كلاهما كرهًا شديدًا!
يُشعرني الفشل أنّي مكشوفة أمام الكلّ، وأما الانتقاد، فأحسه هجومًا مباشرًا عليّ، حتى وإن كان نقدًا بنّاءً خلفه نوايا حسنة. ويزداد شعوري هذا قوّة حينما يأتي النقد من أشخاص، لا أؤمن في أعماقي أنّ لهم الحقّ في إلقاء الأحكام عليّ. الأمر ليس غرورًا بقدر ما هو محاولة لحماية نفسي.
عرّف آدلر هذه المشاعر على أنّها شكل من أشكال التعويض. فحينما نشعر بالارتباك، وتراودنا الشكوك عميقًا في وعينا الباطني، نسعى إلى تعويض الخوف بالسعي نحو الكمال، النجاح، أو القبول من الآخرين. وأيّ شيءٍ أقلّ من ذلك، سيبدو كتهديد لقيمتنا.
التفكير في هذا الأمر، جعلني أدرك أنّي لم أكن خائفة حقًا من الفشل، وإنّما من شعوري بأنّه لا قيمة لي إن فشلت.
وهنا، توصّلت إلى استنتاج أعمق، حينما نربط قيمتنا الشخصية بالعوامل الخارجية، كرؤية الآخرين لنا، أو الإنجازات المادّية أو النجاح…الخ، ستصبح قيمتنا مهزوزة، ويغدو الانتقاد والفشل سببًا في انهيار إحساسنا بقيمتنا العالية.
إدراكي لهذا الأمر، جعلني أبدأ باتخاذ خطوات حقيقية نحو التحرّر من هذا الإحساس. أصبحت أكثر وعيًا بمشاعري. وفي كلّ مرّة أفشل فيها، أقول لنفسي أن الفشل أمرٌ طبيعي، وهو الطريق الوحيد للتعلّم.
لا زلت لا أرحّب كثيرًا بالانتقاد، لكني مع ذلك أحاول قدر الإمكان الاستفادة منه في تحسين نفسي وتطوير مهاراتي.
الأمر ليس سهلاً، ولازلت أمضي في درب التشافي… لكنّ المهم أنّي بدأت.
الحلم الذي أطارده وما كشفه لي عن ذاتي

يقول آدلر أنّ كلّ واحد منّا يحمل في أعماقه “غاية خيالية نهائية“، تتمثّل في هدف أو حلم نؤمن أنّنا إذا وصلنا إليه، فسوف نحقّق ذاتنا، ونشعر بالرضا التامّ… تمامًا كما يحدث في النهايات السعيدة في الأفلام والمسلسلات الخيالية.
بالنسبة لي… تمثّل ذلك الحلم في كلمة واحدة: الحريّة!
لطالما حلمتُ بتحقيق الحريّة المالية، وتخصيص ساعات يومي في الكتابة التي أحبّها، وامتلاك حريّة التصرّف في يومي كما أشاء، دون الحاجة للالتزام بدوام واضح، أو ساعات عمل مقيّدة. أسافر متى شئتُ، وأشارك مع العالم من حولي منتجات خاصّة بي تضيف إليهم إحساسًا دافئًا وتلامس قلوبهم.
وعلى الرغم من أنّه حلم جميل، لكنّه أيضًا مرآة تعكس إيمانًا في داخلي يقول:
“حينما أنجح، وأحقق حلمي، سأشعر أخيرًا بالأمان، سأكون سعيدة، وسأشعر بأنّي كافية…سأحسّ بالرضا عن نفسي.”
لكن… هل يجب عليّ حقًا الانتظار حتى يتحقّق الحلم لأشعر بكلّ هذه الأحاسيس؟ هل سأبقى إلى ذلك الحين، معلّقة في دوّامة الخوف، والإحساس بالفشل، وبأنّ ما أفعله لا قيمة له؟!
ماذا لو كان بوسعي الإحساس بالسعادة والرضا الآن، وأنا أمضي في طريقي لتحقيق حلمي؟ ماذا لو كان بوسعي الشعور بالأمان وأنا في وظيفتي، أبذل جهدي لتقديم أفضل ما لديّ؟ ماذا لو فرحتُ وأنا أكتب لبضع ساعات في مدوّنتي، مرّة كلّ شهر… واستمتعتُ بوقتي وأنا أكتب أو أصمّم منتجاتي؟
أيقظتني أسئلة آدلر من كابوس الركض وراء الغاية، لأعيد ضبط بوصلتي من جديد، وأحاول قدر الإمكان الاستمتاع بالرحلة بدلاً من ذلك!
لنعد كتابة القصّة من جديد: ولنبدأ التغيير

منذ أن قمتُ بهذا التمرين، وحلّلتُ أنماط طفولتي، أحلامي، ومخاوفي، بدأتُ تدريجيًا أعيد برمجة نفسي. وأنتبه أكثر لحواري الداخلي مع نفسي، هذه خطوتي الأولى ولايزال الطريق طويلاً أمامي.
أنا الآن، أتعلّم وبهدوء، ببطء، وبكلّ تعاطف مع نفسي:
- أنّ الانتقاد ليس هجومًا، وإنّما تغذية راجعة، سواءً كان من أشخاص يحقّ لهم إطلاق الأحكام أو لا، يمكنني دومًا الأخذ برأيهم، تحليله وتمحيصه قبل اتخاذ القرار بتجاهله أو الاستفادة منه.
- أن أسمح لنفسي بأخذ قسط من الراحة، أن آخذ الأمور على مهل، وأن أتقبّل نفسي حتّى وإن لم أكن أحقق إنتاجية عالية في بعض الأحيان.
- أن أذكّر نفسي بأنّه ليس عليّ الفوز بالحبّ، أو الراحة، أو الحريّة. تلك ليست جوائز نعمل لربحها، ولا تحدّيات نقاتل للوصول إليها…بل هي حقوق، يحقّ لنا التمتع بها دون أي جهد أو متطلّبات مسبقة.
لم يقدّم لي آدلر حلولاً سحرية، ولكنه ببساطة ساعدني تسمية مشاعري التي كنتُ أواجه صعوبة في فهمها. وحينما أدركتُ تلك المشاعر، أصبح في وسعي التعامل معها بصورة أفضل، والبدء في طريق التغيير.
هل تريد أن تعرف أنت أيضًا ما سيقولك لك آدلر عن نفسك؟
إن كانت أفكارك تبدو كبحر متلاطم الأمواج، وتشعر دومًا بالضياع دون أن تفهم السبب الحقيقي وراء ذلك. إن كنت ترغب في فهم نفسك بصورة أفضل، فهذه الأسئلة الثلاثة عشر قد تكون بداية مناسبة لك.
ليس عليك معرف كلّ الإجابات، وليس هنالك إجابة صحيحة أو خاطئة…كلّ ما عليك فعله، هو البدء… فالحقيقة أنّك لست تائهًا، ولكنك تحاول فقط أن تتذكّر طريق العودة إلى جوهرك الحقيقي.
يمكنك الآن تحميل الأسئلة التحليلية الـ 13 من خلال الرابط أدناه. والإجابة عنها بكلّ صدق لتبدأ رحلة العودة إلى ذاتك.
تحليل الشخصية حسب منهج آدلر: ملف التمرين الذاتي والإرشاد الذكي
دعواتي أن تستمرّ في السير نحو الدرب السليم المقدّر لإبراز أفضل ما فيك، بهدوء، ولطف، وبكثير من الصبر والتعاطف مع نفسك قبل الآخرين. وتذكّر دومًا…أنت كافٍ كما أنت الآن!
قد يعجبك أيضًا: الشعور بالتأخر في الحياة: كيف تتعامل معه لعيش حياة أفضل؟
لا يوجد تعليقات!