إنّه يوم جميل للغاية، الطقس ربيعي دافئ، وقد استيقظت بكامل نشاطك وحيويتك، تعدّ كوبًا من مشروبك المفضّل، وتجلس إلى مكتبك، أو طاولتك على الشرفة. ربّما تتصفّح منصّات السوشيال ميديا، أو تقلّب بعض الصور التي التقطتها قبل أيام قليلة. كلّ شيء على ما يرام، وكلّ شيء يبدو طبيعيًا، إلى أن يصبح فجأة غير طبيعي إطلاقًا!
في هذا المقال
- العقدة التي تطفو من دون سابق إنذار
- شكل من أشكال الإزاحة العاطفية
- أو ربما طريقة يتذكّر بها الجسد ما نحاول نسيانه
- شكل من أشكال الحزن اللامرئي
- نداء من الطفل الجريح في داخلك
- ما الحلّ إذن؟
- أولاً: أعطه اسمًا
- ثانيًا: اكتب عنه وصفه
- ثالثًا: تنفّس
- رابعًا: تواصل مع طفلك الداخلي
- من الطبيعي أن تشعر أحيانًا دون أن تفهم
تحسّ فجأة بعقدة في معدتك، وينقبض صدرك بلا أيّ سبب واضح. تجتاحك من غير سابق إنذار رغبة في البكاء، على الرغم من أنّك لم تفكّر بأيّ أمر حزين، ولم يخطر ببالك شيء قد ينغّص عليك سعادتك!
إن كان هذا السيناريو يبدو لك مألوفًا، فأنت لست وحدك…
العقدة التي تطفو من دون سابق إنذار

ليس من السهل تفسير ماهيّة هذا الشعور. في الواقع، لازلت حتّى الآن أبحث عن المصطلح الأمثل لوصفها والتعبير عنها بدقة. بحثتُ على شبكة الإنترنت، لكنّ اغلب التفسيرات كانت مرتبطة بأعراض جسدية ذات علاقة بالمعدة والأمعاء، بيْدَ أنّ ما أتحدّث عنه هنا، هو شعور نفسي خفي، يبدو لي أحيانًا حينما يصيبني كما لو أنّه نداء من أعماق اللاوعي.
هو ليس إحساسًا بالقلق بحدّ ذاته، وليس شعورًا حقيقيًا بالحزن، فغالبًا ما يصيبنا في لحظات يومنا الطبيعية وأثناء ممارسة نشاطاتنا الروتينية، ودون أيّ محفّز داخلي أو خارجي!
يبدو أحيانًا مشابهًا لمشاعر التوتر والخوف قبل إلقاء خطاب على جمهور كبير، وفي لحظات أخرى هو أقرب لحاسة سادسة خفية تخبرنا أنّ شيئًا سيئًا على وشك الحدوث. يصفه البعض ككرة تقف في الحلق (وأؤكد أنّها وهمية وغير مرتبطة بعوامل فيسيولوجية)، ويختبره آخرون كثقل في الصدر أو المعدة، في حين يتجلّى لآخرين على شكل إحساس بانهيار لحظي، كمن سمع خبرًا سيئًا وأصابته الصدمة من وقعه.
وفي جميع أشكاله، يأتي هذا الشعور الغريب دون سبب واضح، ولا يرتبط بأيّ كلمات، أحداث أو حتى صور من الواقع أو الذاكرة…هو مجرّد ألم نفسي خفي يتوسّل إلينا أن نصغي إليه.
لنحاول أن تكتشف معًا فيما يلي من سطور خفايا هذا الإحساس الغامض، ونستمع لما يحاول أن يقوله لنا!
شكل من أشكال الإزاحة العاطفية
إحدى النظريات المحتملة لتفسير الشعور الثقيل المفاجئ هو ما يُعرف بالإزاحة العاطفية أو الـ “Emotional Displacement”.
غالبًا ما يعبّر مفهوم الإزاحة العاطفية عن ردّة فعل لاواعية على المشاعر السيئة والسلبية التي قد يحسّ بها الشخص نتيجة مواقف معيّنة خلال يومه، حيث تأتي ردّة الفعل هذه موجّهة إلى أشخاص أقلّ قوّة منه، وليس لهم يدٌ في حالته النفسية تلك.
فمثلاً، قد يصبّ أحدهم جام غضبه على زوجته أو أولاده عند عودته إلى المنزل نتيجة الضغط الذي تعرّض إليه من مديره في العمل خلال اليوم. أو قد تنفجر إحداهنّ باكية لسبب تافه لا يستدعي البكاء، لأنها كانت تحبس دموعها لفترة طويلة خلال مواقف صعبة سابقة.
تحدث الإزاحة العاطفية إذن عندما يعيد الدماغ توجيه المشاعر الصعبة والقويّة من مصدرها الأساسي، ليعبّر عنها في مواضع أخرى أكثر أمانًا، وبطرق أقلّ وضوحًا.
وعليه فإن تلك العقدة الغريبة أو الشعور المفاجئ بالانقباض، قد يكون عبارة عن بقايا من خوف وحزن وشوق (أو غيرها من المشاعر السلبية القوية) من موقف سابق لم تتمكّن من معالجته بالكامل في حينه. كأن يختفي شخص عزيز من حياتك فجأة، أو ترى أحباءك يعانون من أمرٍ تتمنّى لو كان بإمكانك إصلاحه.
أو ربما طريقة يتذكّر بها الجسد ما نحاول نسيانه

تعمل أجسادنا بطريقة غريبة، وهي في الواقع تسجّل كلّ شيء، وتحتفظ بكلّ الذكريات حتى وإن بدا لنا أنّنا نسيناها أو تجاوزناها تمامًا.
عندما نقمع مشاعرنا سعيًا منّا للاستمرار في حياتنا بشكل طبيعي، وحينما نخفي الألم والغضب والانزعاج لأننا نريد أن نبقى أقوياء في نظر المجتمع، فتلك المشاعر لا تختفي حقًا، وإنّما تُخزّن في الجسد فيما يُسمّى بالذكريات الجسمانية أو الـ “Somatic memories”. حيث يمكن لهذه الذكريات أن تطفو على السطح من جديد في أيّ وقت. وغالبًا ما تُستحثُّ بأمور قد تبدو عادية، كرائحة معيّنة، ذكرى عابرة، تغيّر في الطقس أو غيرها من الأحداث البسيطة. لتُصبح تلك العقدة المفاجئة، وذلك الإحساس الثقيل الغامض وسيلة الجسد للهمس: “هنالك شيءٌ لم تتمكّن بعد من الإحساس به كما يجب…”
وهذا بالضبط ما يؤكّده الباحث والطبيب النفسي الهولندي، الدكتور بيسل فان دير كولك المتخصص في الصدمات النفسية. إذ يوضّح في كتابه “الجسد يحفظ الصدمة”، بأنّ آثار الصدمات النفسية قد تبقى قائمة لسنوات طويلة حتى دون وعي الشخص بها.
قد يكون من المفيد إذن أن نسأل أنفسنا عندما يباغتنا هذا الشعور الثقيل:
- هل حدث معنا شيء في الفترة الأخيرة لم نتمكّن بعد من تخطّيه؟
- هل أحسسنا بمشاعر قويّة وحاولنا الهروب منا، فلم نعالجها بعد؟
- هل هناك أحاسيس وأفكار معيّنة في داخلنا نحاول تجاهلها؟
شكل من أشكال الحزن اللامرئي
جانب آخر من جوانب هذا الشعور الثقيل المفاجئ، قد يكون شكلاً من أشكال الحزن والحداد على ما فات. يحدث ذلك عندما نحزن على الأمور غير الملموسة، أو الأحلام الضائعة مثلاً. كأن تحزن على مستقبل بنيته في خيالك مع أحدهم ولكنه رحل عنك. أو أن تفتقد نفسك التي كانت تتوقّد شغفًا في الماضي. أو أن تحنّ إلى علاقتك القديمة مع أبويك وتتمنّى إصلاحها… هذه كلّها خسائر حقيقية، ومؤلمة حتى وإن لم يلحظها أحد، وتخلّف وراءها شعورًا مريرًا قد لا يكون دائمًا على شكل انهيار وبكاءٍ دموع، بل قد يأتي في شكل إحساس ثقيل ينتابك على حين غرّة وفي الأوقات التي لا تتوقّع ظهوره فيها إطلاقًا.
نداء من الطفل الجريح في داخلك

أحيانًا، تكون تلك العقدة المجهولة محاولات من الطفل في داخلك للوصول إليك. ذلك الجزء من شخصيتك الذي كان يشعر بالسعادة لأبسط الأمور، الطفل الذي كنته قبل سنوات، والذي كان يؤمن بوجود عوالم سحرية ما وراء الغيوم، ويُبدي اندهاشه بكلّ ما حوله.
لربما تعرّض ذلك الطفل لصدمات أو جروح في الماضي لم تُشفَ بعد، لعلّه أُهمِل في وقت كان بأمسّ الحاجة لأن يُرى فيه، أو تمّ تجاهله في لحظات كان يتوق فيها لأن يُسمع صوته. لعلّ تلك العقدة التي تباغتك في لحظات يومك هي طريقته التي يناديك بها، لأن تراه من جديد.
عندما نتجاهل الطفل الداخلي، يزداد ألمه ويعظم، ويتجلّى في حياتنا الحاضرة بأشكال عديدة. لكن، حينما نتعلّم كيف نتواصل معه من جديد، سيتعافى وتتعافى أنفسنا الحالية معه.
تعرّف أكثر على مفهوم الطفل الداخلي وكيفية علاجه لعيش حياة أفضل.
ما الحلّ إذن؟

حسنًا، لقد طرحنا ما فيه الكفاية من النظريات حول مفهوم هذه العقدة أو الشعور الثقيل المفاجئ الذي ينتابنا، لكن ماذا عن علاجه والتعافي منه؟ ما الذي يمكننا فعله للتخفيف من وطأته؟
دعني أخبرك أوّلاً يا عزيزي القارئ بأنّ تجاهله، ومحاولة الاستمرار في حياتك بشكل طبيعي لن يجعله يختفي… نعم قد يتلاشى لبضعة ساعات، أيّام وربما شهور، لكنه سيطفو على السطح من جديد.
ليس من السهل فهم السبب وراءه دائمًا، وأعلم أنّه قد يكون من الصعب أحيانًا منحه الوقت الكافي لتحليله وفهم خفاياه، خاصّة عندما يباغتك في أوقات عملك أو دراستك.
لكن، هنالك بعض الخطوات التي قد تساعدك على التعافي من هذا الشعور الثقيل المفاجئ تدريجيًا… في الواقع، أنت لستَ بحاجة لعلاجه بقدر ما تحتاج إلى الاعتراف بوجوده، والإنصات لما يريد أن يقوله لك!
أولاً: أعطه اسمًا
بدلاً من محاولة تجاهل هذا الشعور، أو البحث عن أشياء تلهيك عنه، كأن تنام، أو تتصفّح منصات التواصل الاجتماعي أو غيرها، ابدأ بملاحظته وإعطائه اسمًا والاعتراف بوجوده.
عندما ينتابك هذا الشعور، قل لنفسك:
“أنا أحس الآن بشعور ثقيل مفاجئ…وأريد أن أفهم ما يحاول أن يقوله لي…”
يمكنك أن تطلق عليه أسماءً تراها مناسبة: عقدة، كلكوعة، غصّة، انقباض…الخ.
عندما نعترف بوجود مشكلة ما، فذلك نصف الحلّ…والاعتراف بوجود هذا الشعور هو أولى خطوات فهمه والتعافي منه.
ثانيًا: اكتب عنه وصفه
خصّص وقتًا لتكتب عن هذا الشعور… دع أفكارك تنساب على الورق تلقائيًا، ليس عليك العثور على إجابات في هذه المرحلة، فقط اكتب ما تشعر به بكلّ صدق.
حاول أيضًا أن تدوّن الأفكار التي كانت تراودك عندما انتابك هذا الشعور (حتى وإن بدت عشوائية وغير مترابطة)، أو الأوقات من اليوم التي أحسست خلالها بهذا الشعور الثقيل. قد يكشف لك ذلك عن أنماط تفكير معيّنة، كنت غافلاً عنها!
ثالثًا: تنفّس
بقدر ما يبدو هذا الأمر بسيطًا، لكنّه فعّال للغاية… التنفس العميق يسهم بشكل كبير في تخفيف الضغوطات، ويساعدك على تخليص جسمك من التوتر.
يمكنك أن تجرب تمرين الـ 4-7-8: تنفّس بعمق لمدّة 4 ثوانٍ، ثمّ احبس أنفاسك لـ 7 ثوانٍ، وأخيرًا أنهِ بزفير بطيء لمدّة 8 ثوانٍ.
كرّر الأمر بضع مرّات، وستلاحظ أنّ أعصابك قد هدأت، وحتى أفكارك المتلاطمة قد استكانت.
رابعًا: تواصل مع طفلك الداخلي
إن كان هذا الشعور الثقيل في داخلك هو صوت طفلك الداخلي، فالحلّ إذن هو بالإنصات إليه والتواصل معه من جديد.
كيف ذلك؟!
حسنًا إليك بعض الطرق العملية لتجدّد علاقتك مع الطفل الصغير في داخلك:
- ابدأ بلحظات من الصمت، وحاول أن تتذكّر خلالها ما الذي كان يُشعرك بالسعادة وأنت طفل صغير.
- تخيّل لو أنّك بطريقة ما قد استطعت العودة إلى الماضي والالتقاء بالنسخة الطفل منك… كيف تراه؟ ما الذي يشعر به؟ وما الذي تعتقد أنّه بحاجة إليه؟
- دوّن إجاباتك عن هذه الأسئلة، دون إطلاق أحكام…فقط اُكتب ما يخطر لك من أفكار في هذا الشأن.
- ابدأ بتقديم العون لهذا الطفل، وتلبية احتياجاته… هل هو بحاجة إلى رفيق؟ اكتب له رسالة، أو قف أمام المرآة وتحدّث إليه كأنه رفيقك. هل يشعر بالخوف؟ أشعِره بالأمان، قل عبارات مثل: أنت بأمان الآن…أنت بخير…
- انخرط في نشاطات كنت تستمتع بها وأنت طفل صغير، قد يكون ذلك تناول قطعة من البسكويت، الذهاب في رحلة، مشاهدة أفلام الكرتون، تجربة ألعاب الفيديو…الخ…
- استعن بأدوات الذكاء الاصطناعي للتواصل مع طفلك الداخلي. يمكنك على سبيل المثال أن تطلب من ChatGPT أو غيره من الأدوات، أن يتصرّف معك وكأنه الطفل الصغير بداخلك، دعه يطرح عليك الأسئلة، ويقترح حلولاً للتواصل معك… ستنبهر حقًا (وربما تبكي أيضًا!) بما سيكشفه لك ذلك عن نفسك.
- تواصل مع أخصائي نفسي: إن كنت لا تفضّل التعامل مع أداوت الذكاء الاصطناعي، فيمكنك في هذه الحالة أن تلجأ إلى معالج أو أخصائي نفسي يساعدك على إعادة تجديد التواصل مع طفلك الداخلي.
تعرف على طرق علاج الطفل الداخلي بتفصيل أكثر، وتشافى من آلام الماضي الآن.
من الطبيعي أن تشعر أحيانًا دون أن تفهم
في نهاية المطاف، لربّما علينا أن نتصالح مع فكرة أنّ المشاعر ليست بالضرورة مفهومة، ومن الطبيعي أحيانًا أن تنتابنا أحاسيس غامضة لا يسعُنا تفسيرها.
أحيانًا، قد يكون الطريق الأمثل للتشافي هو بأن نمنح لمشاعرنا مساحة لأن تطفو على السطح…لأن تكون… دون أن نسعى بجدّ لفهمها وتشريحها وعلاجها.
امنح نفسك فرصة لتشعر وفقط، دون إطلاق الأحكام، ودون أن تحاول فهم كلّ شيء…فقط اُشعر وتعايش مع الشعور… فقد يكون هذا الشعور طريقة الروح لتذكيرك بأنّك إنسان، بأنّك قد عشت وأحببت وتألمت، وبأنك تسير الآن في درب التعافي…
دع العقدة تتحدّث، واسمح للشعور الثقيل بأن يطفو تدريجيًا ويتلاشى ببطء… لأنه بلا شكّ جزءٌ من رحلة عودتك إلى ذاتك…
لا يوجد تعليقات!